قتل النفس التي حرم الله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال:
(( اجتنبوا السبع الموبقات )) . قالوا : يا رسول الله وما هُنَّ ؟
قال (( الشرك بالله ، والسحرُ وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكلُ مال اليتيم ، وأكلُ الربا ، والتولي يوم الزحف وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات ))(1) .
أولاً : حرمة النفس والدماء عند الله جل وعلا .
إن الله عز وجل قد كرم هذا الإنسان تكريماً و جعل الإسلام قتل النفس كبيرة .
كبيرة تأتي بعد كبيرة الشرك بالله عز وجل كما قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن .
وليس لأحد البته أن يسلب هذه الحياة إلا خالقها سبحانه وتعالى أو بأمر منه في نطاق الحدود التي شرعها لخلقه وهو سبحانه عليم بهم خبير بما يصلحهم ويفسدهم إذ يقول سبحانه : {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك:14]
والعليم اللطيف الخبير جل وعلا يحرم قتل النفس إلا بالحق فيقول سبحانه : {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [ الأنعام:14]
ويقول رسوله r : (( وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق )) .
وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد واضح لا غموض فيه ..
وليس متروكاً للرأي ولا متأثراً بالهوى .
وقد حدد النبي r في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي r قال : (( لا يحلُ دمُ امريء مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفسُ بالنفسُ ، والثيب الزاني ، التارك لدينه المفارقُ للجماعة ))(1)
فأما الحالة الأولى : فهي القصاص العادل الذي وإن قتل نفساً فقد ضمن الحياة
للمجتمع نفسه .
كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ{178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[ البقرة :178-179]
نعم .. حياةٌ بردع هؤلاء الذين يفكرون مجرد تفكير في الاعتداء على الناس .
وحياةٌ بكفَّ أهل المقتول عن الثأر قد لا يقف عند القاتل بل يتعداه إلى أهله ممن لا ذنب لهم ولا جريرة .
وحياة يأمن فيها كل فرد على نفسه لأنه يعلم يقيناً أن هناك قصاصاً عادلاً ينتظر كل من يتعدى حدود الله .
أما الحالة الثانية : التي يجوز فيها القتلُ وبالرجم فهي للثيب الزاني الذي رزقه اللهُ الحلال الطيب فراح يرتعُ في مستنقع الرذيلة العفن .
والحالة الثالثة : التي يجوز فيها القتلُ تكون لمن ترك دينه وارتد بعد أن منَّ الله به عليه .
فالردة بالإجماع سبب لإباحة دم المسلم .
يقول النبي r في الحديث الذي رواه البخاري وأحمد عن ابن عباس: ((من بَّل دينه فاقتلوه))(1)
هذه هي الحالات الثلاث التي تبيح قتل المسلم على يد ولي الأمر المسلم أو من
ينوب عنه .
أما فيما عدا هذه الحالات فإنه لا يجوز أبداً قتل النفس بل إن الأمر جد خطير وكيف لا وقد قال جل وعلا : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }[النساء:93]
وفي الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء ورواه الحاكم والنسائي وأحمد من حديث معاوية وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع أن النبي قال :
(( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً ))(4)
ولذا فإن أول ما يُقضى فيه يوم القيامة هو الدماء .
كما في الصحيح وغيرهما أن النبي r قال : (( أولُ ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء ))(2)
ولا منافاة بين هذا وبين قوله (( أول ما يحاسب به العبدُ الصلاة )) (3)
فهذا حق بينه وبين الله والدماء حق العباد .
وقد ورد عند النسائي وأبو داود من حديث ابن مسعود بلفظ (( أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس الدماء ))(4)
فقرع النداء قلبك وارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك وتغير لونك وطار قلبك وجاءت الملائكة الموكلة بسوقك إلى الله تعالى .
حتى إذا ما وقفت بين يدي ملك الملوك وجبار السموات والأرض أخذت صحيفتك هذه الصحيفة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة !!
فانتبه ... يُنادى عليك أيها القاتلُ المجرم يا من سفكت دماء الموحدين المؤمنين فتأتي فرداً عارياً لا سلطان لك ، ولا مال معك ، لتفتدي به وقد أحاط بك من كل ناحية من قتلتهم في الدنيا وقد تعلقوا به وأوداجهم [أي عروق أعناقهم] تشخب [أي تسيل] دماً ويقولون لله جل وعلا سل هذا القاتل فيم قتلنا كما في سنن النسائي من حديث ابن عباس وهو حديث حسن قال سمعت النبي يقول : (( يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب [تسيل] أوداجه دما ، فيقول : أي رب سل هذا فيم قتلني ؟ )) وفي رواية (( يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ، ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دماً ، يقول : يا رب ، قتلني هذا ، حتى يدنيه من العرش ، قال : فذكروا لابن عباس التوبة فتلا هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} قال : وما نُسِخَت هذه الآية ولا بدلت ، وأنى له التوبة ؟ ))(1)
الله أكبر .....
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47]
ثانياً : حكم من قتل نفسه فمات منتحراً
أحبتي في الله :
ولم ينتف هذا الوعيد الرهيب في حق من قتل نفسه منتحراً والعياذ بالله بل هو خالد في النار لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي r قال :
((من تردى من جبل (أي ألقى بنفسه) فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساهُ في نار جهنم خالداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً )) ([7])
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن رسول الله التقى هو والمشركون فاقتتلو ، فلما مال النبي r إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتبعها يضربها بسيفه – فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان ، فقال رسول الله r : (( أما إنه من أهل النار )) .
فقال رجل من القوم : أنا صاحبه أبداً .
قال فخرج معه كلما وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه ، قال : فجُرِحََ الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله فقال : أشهد أنه رسول الله .
قال : (( وما ذاك ؟ )) .
فقال : الرجلُ الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار ، فأعظم الناس ذلك ، فقلت : أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت ، فوضع سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه ( ذبابة السيف : طرف رأسه) ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله عند ذلك :
(( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدوا للناس وهو من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم ))(1)
وفي رواية أخرى في الصحيحين عن أبي هريرة قال : فلما أُخبر النبي أن الرجل قتل نفسه كبر النبي وقال : (( أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الكافر ))(2)
ثالثاً : حكم القتل الخطأ
وقد بينه الله جل وعلا في سورة النساء بقوله :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:92]
فالحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام .
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة وديةٌ تسلمُ إلى أهل القتيل فأما تحرير الرقبة المؤمنة فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس بعنق نفس مؤمنة أخرى .
وأما الدية فتسكين لثائرة نفوس أهل القتيل وشراٌْ لخواطرهم بعد ما فجعوا في قتيلهم وتعويض لهم عن بعض ما فقدوه إلا أن يصدَّقوا ويتنازلوا عن هذا الحق تسامحاً
وتعاطفاً . أ. هـ([8])
الحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب .
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت لكن لا يجوز دفع الدية لقوم القتيل المحاربين حتى لا يستعينوا بها على قتال المسلمين ، إذا لا مكان ولا مجال هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم محاربون وأعداء للإسلام والمسلمين .
أما الحالة الثالثة : فهي أن يقع القتل على مؤمن أو على غير مؤمن قومه معاهدون أي لهم عهد هدنة أو عهد ذمة .
وفي هذه الحالة يجب أن تدفع الدية إلى أهله المعاهدين ولو لم يكن القتيل مؤمناً لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين ويجب أيضاً على القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة .
وأخيراً : هل للقاتل المتعمد توبة ؟
{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70]
وأخيراً قال علماؤنا من قتل مؤمناً متعمداً فتاب تاب الله عليه أما إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي
{فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93]